فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد نُسمِّي الأسماء تفاؤلًا أن يكونوا كذلك، كالذي سمَّي ولده يحيى، ويظهر أنه كان يعاني من موت الأولاد؛ لذلك قال:
فَسمَّيْتُه يَحيى ليحيى فَلَم يكُنْ ** لِرَدِّ قَضَاءِ اللهِ فيه سَبيلُ

أي: سمَّيْته يحي أَملًا في أن يحيا، لَكِن هذا لم يردّ عنه قضاء الله.
وكذلك لما سمَّي عبد المطلب محمدًا قال: سمَّيته محمدًا ليُحمد في الأرض وفي السماء.
لَكِن، حين يُسمِّى يحيى مَنْ يملك الحياة ويملك الموت، فلابد أن يكون اسمًا على مُسمَّى، ولابد له أن يحيا، حتى إنْ مات يموت شهيدًا، لتتحقق له الحياة حتى بعد الموت.
ومعنى: {وَوَهَبْنَا} [الأنبياء: 90] أي: أعطيناه بدون قانون التكوين الإنساني، وبدون أسباب.
ثم يقول سبحانه: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] فبعَد أنْ كانت عاقرًا لا تلد أجرينا لها عملية ربانية أعادتْ لها مسألة الإنجاب؛ لأن المرأة تلد طالما فيها البويضات التي تكوِّن الجنين، فإذا ما انتهتْ هذه البويضات قد أصبحت عقيمًا، وهذه البويضات في عنقود، ولها عدد مُحدَّد أشبه بعنقود البيض في الدجاجة؛ لذلك يسمون آخر الأولاد آخر العنقود.
إذن: وُجِد يحيى من غير الأسباب الكونية للميلاد؛ لأن المكوِّن سبحانه أراد ذلك.
لَكِن، لماذا لم يقُلْ لزكريا أصلحناك؟ قالوا: لأن الرجل صالح للإنجاب ما دام قادرًا على العملية الجنسية، مهما بلغ من الكِبَر على خلاف المرأة المستقبِلة، فهي التي يحدث منها التوقُّف.
وأصحاب العُقْم وعدم الإنجاب نرى فيهم آيات من آيات الله، فنرى الزوجين صحيحين، أجهزتُهما صالحة للإنجاب، ومع ذلك لا ينجبان، فإذا ما تزوج كل منهما بزوج آخر ينجب؛ لأن المسألة ليست آليّة، بيل وراء الأسباب الظاهرة إرادة الله ومشيئته.
لذلك يقول تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى: 49- 50].
ثم تُوضِّح الآيات سبب وعِلَّة إكرام الله واستجابته لنبيه زكريا- عليه السلام: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] هذه صفات ثلاث أهَّلَتْ زكريا وزوجته لهذا العطاء الإلهي، وعلينا أن نقف أمام هذه التجربة لسيدنا زكريا، فهي أيضًا ليستْ خاصة به إنما بكل مؤمن يُقدِّم من نفسه هذه الصفات.
لذلك، أقول لمن يُعاني من العقم وعدم الإنجاب وضاقتْ به أسباب الدنيا، وطرق باب الأطباء أن يلجأ إلى الله بما لجأ به زكريا- عليه السلام- وأهله {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] خذوها روشتة ربانية، ولن تتخلف عنكم الاستجابة بإذن الله.
لَكِن، لماذا هذه الصفة بالذات: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات} [الأنبياء: 90]؟
قالوا: لأنك تلاحظ أن أصحاب العُقْم وعدم الإنجاب غالبًا ما يكونون بُخَلاء مُمْسِكين، فليس عندهم ما يُشجِّعهم على الإنفاق، فيستكثرون أن يُخرجوا شيئًا لفقير؛ لأنه ليس ولده.
فإذا ما سارع إلى الإنفاق وسارع في الخيرات بشتى أنواعها، فقد تحدَّى الطبيعة وسار ضدها في هذه المسألة، وربما يميل هؤلاء الذين ابتلاهم الله بالعُقْم إلى الحقد على الآخرين، أو يحملون ضغينة لمن ينجب، فإذا طرحوا هذا الحقد ونظروا لأولاد الآخرين على أنهم أولادهم، فعطفوا عليهم وسارعوا في الخيرات، ثم توجَّهوا إلى الله بالدعاء رَغَبًا ورَهَبًا، فإن الله تعالى وهو المكوِّن الأعلى يخرق لهم النواميس والقوانين، ويرزقهم الولد من حيث لا يحتسبون.
ومعنى: {وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] يعني: راضين بقدرنا فيهم، راضين بالعُقْم على أنه ابتلاء وقضاء، ولا يُرفع القضاء عن العبد حتى يرضى به، فلا ينبغي للمؤمن أنْ يتمرَّد على قدر الله، ومن الخشوع التطامن لمقادير الخَلْق في الناس.
{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا}.
ولك أن تسأل: لماذا يأتي ذِكْر السيدة مريم ضمن مواكب النبوة؟ نقول: لأن النبوة اصطفاء الله لنبي من دون خَلْق الله، وكوْنه يصطفي مريم من دون نساء العالمين لتلد بدون ذكورة، فهذا نوع من الاصطفاء، وهو اصطفاء خاص بمريم وحدها من بين نساء العالمين؛ لأن اصطفاء الأنبياء تكرَّر، أمّا اصطفاء مريم لهذه المسألة فلم يتكرر في غيرها أبدًا.
وقوله تعالى: {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91] يعني: عَفَّتْ وحفظتْ فَرْجها، فلم تمكِّن منها أحدًا.
ومعنى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 91] يعني: مسألة خاصة به، خارجة على قانون الطبيعة، فليس في الأمر ذكورة أو انتقاء، إنما النفخة التي نفخها الله في آدم، فجاءت منها كل هذه الأرواح، هي التي نفخها في مريم، فجاءت منها روح واحدة. فالروح هي نفسها التي قال الله فيها: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29].
ثم يقول تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا وابنها آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] يعني: شيئًا عجيبًا في الكون، والعجيبة فيها أن تلدَ بدون ذكورة، والعجيبة فيه أن يُولَد بلا أب، فكلاهما آية لله ومعجزة. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)}.
التفسير: الرشد الاهتداء لوجوه المصالح في الدين والدنيا وقد يخص هاهنا بالنبوة لقوله: {رشده} ومعنى الإضافة أن لهذا الرشد شأنًا ولقوله: {وكنا به عالمين} وفيه أنه علم منه أسرارًا عجيبة وأحوالًا بديعة حتى اتخذه خليلًا واصطفاه نبيًّا نظيره {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124] وعلى هذا فمعنى قوله: {من قبل} اي من قبل موسى وهارون قاله ابن عباس: وعلى الأول يحتمل هذا وأن يراد من قبل البلوغ حين استدل بالكواكب قاله مقاتل. وعن ابن عباس في رواية الضحاك حين أخذ الله ميثاق النبيين في صلب آدم. قالت الأشاعرة: أراد بإيتاء الرشد خلق ذلك فيه إذ لو حمل على أسباب ذلك تناول الكفار. أجاب الكعبي بأن هذا إنما يقال فيمن قبل لا فيمن رد، نظيره بأن يعطي الأب كل واحد من ولديه ألفًا فقبله أحدهما وثمره ورده الآخر أو أخذه ثم ضيعه فيقال: أغنى فلان ابنه فيمن ثمر المال، ولا يقال مثله فيمن ضيع. واعترض بأن قبوله على هذا التقدير يكون جزءًا من مسمى الرشد وحينئذ لا يصح إستناد إيتاء الرشد إلى الله وحده، وهذا بخلاف نص القرآن. والتمثال اسم للشيء المصنوع مشبهًا بخلق من خلق الله تعالى من مثلت الشيء بالشيء شبهته به، وإسم ذلك الممثل تمثال جعل إبراهيم عليه السلام هذا التجاهل والتغابي ابتداء كلامه لينظر فيما عساهم يوردونه من شبهة فيحلها لهم مع ما في هذا السؤال من تحقير آلهتهم وتسفيه أخلافهم. وفي قوله: {أنتم لها عاكفون} دون أن يقول عليها كقوله: {يعكفون على أصنام لهم} [الأعراف: 138] نوع آخر من التجهيل والتوبيخ لأنه ادعى عليهم أنهم جعلوا العكوف مختصًا بها دون خالقها وخالق كل شيء {قالوا وجدنا آبائنا لها عابدين} لا يمكن لهم أن يتمسكوا بشيء آخر سوى التقليد فزيف طيقتهم بالتنبيه على خطئهم وخطأ أسلافهم فقال: {لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين} لأن كل مذهب لا يستند إلى دليل كان صاحبه ضالًا أو في حكم ذلك.
ثم إن القوم تعجبوا من تضليلهم مع كثرتهم ووحدته ومنعهم عما ألفوه وضروا به فقالوا {أجئتنا بالحق} أي بما ليس بهزل ودعابة {أم أنت من اللاعبين} فحينئذ عدل إبراهيم عن مجرد التنبيه إلى إثبات الدعوى بالبينة والدليل وجاهدهم أولًا باللسان قائلًا {بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن} الظاهر أن الضمير للسموات والأرض إلا أنه قيل: كونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم. وقوله: {وأنا على ذلكم من الشهداء} فيه تأكيد وتحقيق لما قاله كقول الرجل إذا بالغ في مدح أحد أو ذمه أشهد إنه كريم أو لئيم لأن الشهادة خبر قاطع. وفيه أنه قادر على إثبات ما ادعاه بالحجج والبينات كما شاؤوا ثم أخبر أنه سيجاهدهم جهادًا بالفعل من غير تقية وخوف قال: {وتالله لأكيدن أصنامكم} قال جار الله: في تاء القسم مع أنه عوض عن الباء زيادة معنى وهو التعجب كأنه تعجب من سهولة الكيد على يده لأن ذلك لصعوبته كان كالمقنوط منه خصوصًا في زمن نمرود مع شدة شكيمته وقوة سلطانه.
قلت: لا ريب أن هذا مستبعد عادة ولَكِنه سهل لمن ايده الله ونصره كما قال على رضي الله عنه: والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولَكِن بقوة رحمانية. سؤال: الكيد هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به فكيف يتصور ذلك في حق الأصنام؟ وجوابه أنه قال ذلك بناء على زعمهم أنه يجوز ذلك عليها، أو أراد لأكيدنكم في أصنامكم لأنه بذلك الفعل أهمهم وأحزنهم. قال السدي: كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم: لو خرجت معنا؟ فخرج معهم. فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال إني سقيم أشتكي رجلي، فلما بقي هو وضعفاء الناس نادى وقال الله لأكيدن أصنامكم. وروى الكلبي أن إبراهيم كان من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضًا، فلما هم إبراهيم بالذي هم به من كسر الصنام نظر قبل يوم العيد إلى السماء فقال لأصحابه: إني أراني أشتكي عدا فذلك قوله في الصافات {فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم} [الصافات: 88، 89] وأصبح من الغد معصوبًا رأسه، فخرج القوم لعيدهم ولم يتخلف أحد غيره فقال سرًّا: أما والله لأكيدن أصنامكم، فسمعه رجل واحد وأخبر به غيره وانتشر الخبر. وعلى الوجهين يصح قوله فيما بعد {قالوا سمعنا فتى يذكرهم} وروي أن آزر خرج به في عيد لهم فبدأوا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعامًا خرجوا به معهم وقالوا: إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا، فذهبوا وبقي إبراهيم فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنمًا مصطفة وثمة صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، فكسرها كلها بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلا الكبير علق الفأس في عنقه {فجعلهم جذاذًا} قال الجوهري: جذذت الشيء جذًا قطعته وكسرته، والجذاذ ما كسر منه وضمه أفصح من كسره. قلت: فعلى هذا هو اسم جمع لا جمع {إلا كبيرًا لهم} أي في الخلقة كما روينا. وقيل: في التعظيم. ويحتمل أن يكون جامعًا للأمرين. أما الضمير الواحد في قوله: {لعلهم إليه يرجعون} فيحتمل عوده إلى إبراهيم أي جعلهم جذاذًا واستبقى الكبير رجاء أنهم يرجعون إلى دينه أو غلى السؤال عنه لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم فيبكتهم بقوله: {بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم} ويحتمل عوده الكبير كما ذهب إليه الكلبي.
والمعنى لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحًا والفأس على عاتقك، وهذا بناء على ظنهم أن الأصنام قد تتكلم وتجيب، على أن نفس ذلك الكبير كان دليلًا على فساد مذهبهم لأن الآلهة يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء لأنهم كانوا يعظمونها ويقولون: إن المستخف بها يلحقه ضرر عظيم، فحين كسرها إبراهيم ولم ينله ضرر من تلك الجهة بطل ما اعتقدوه. فلما انكشفت لهم جلية الحال و{قالوا من فعل هذا} الكسر والحطم والاستخفاف {بآلهتنا إنه لمن الظالمين} المعدودين في جملة من يضع الشيء في غير موضعه لأنه وضع الإهانة مكان التعظيم {قالوا سمعنا} احتمل أن يكون القائل واحدًا، ونسب القول إلى الجماعة لأنه منهم، واحتمل أن يكون جمعًا على الوجهين اللذين رويناهما، أو لأنهم سمعوا منه قوله على وجه الاستهزاء {ما هذه التماثيل} والفعلان بعد {فتى} صفتان له إلا أن، الأول ضروري ذكره لأنك لا تقول سمعت زيدًا وتسكت حتى تذكر شيئًا مما تسمع، والثاني ليس كذلك. والأصح أن قوله: {إبراهيم} فاعل {يقال} لأن المراد الاسم لا المسمى وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف أو منادى. {قالوا} اي فيما بينهم {فأتوا به على أعين الناس} الجار والمجرور في محل الحال اي بمرأى منهم ومنظر أو معاينًا ومشاهدًا قال. في الكشاف: معنى الاستعلاء في على أنه يثبت إتيانه في الأعين ويتمكن ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه {لعلهم يشهدون} عليه بما سمع منه وبما فعله فيكون حجة عليه قاله الحسن وقتادة والسدي وعطاء عن ابن عباس. وقال محمد بن إسحق: معناه لعلهم يحضرون عقوبتنا له ليكون ذلك زاجرًا لهم عن الإقدام على مثل فعله. وهاهنا إضمار أي فأتوا به ثم {قالوا أأنت فعلت هذا} الظلم والاستخفاف {بآلهتنا يا إبراهيم} طلبوا منه الاعتراف ليقدموا على إيذائه {فقال بل فعله كبيرهم} وقوله: {هذا} صفة كبيرهم.
زعم الطاعنون في عصمة الأنبياء أن هذا القول من إبراهيم كذب وأكدوا قولهم بما جاء في الحديث: «إن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات» وللعلماء في جوابهم طريقان: أحدهما تسليم أنه كذب ولَكِنهم قالوا: الكذب ليس قبيحًا لذاته وإنما يقبح لاشتماله على مفسدة. وقد يحسن الكذب إذا اشتمل على مصلحة كتخليص نبي ونحوه، وزيف هذا الطريق بأنا لو جوزنا أن يكذب النبي لمصلحة لبطل الوثوق بالشرائع، فلعل الأنبياء أخبروا عما أخبروا لمصلحة المكلفين في باب المعاش مع أنه ليس للمخبر عنه وجود كما في الواقع. الطيق الثاني وعليه جمهور المحققين المنع من أنه كذب وبيانه من وجوه: الأول أنه من المعاريض التي يقصد بها الحق وهو إلزام الخصم وتبكيته كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتابًا بخط في غاية الحسن، أنت كتبت هذا وصاحبك أمي لا يحسن الخط فقلت له: بل كتبته أنت.
كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع استهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي. الثاني أن إبراهيم عليه السلام غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مزينة، وكأن غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي تسبب لاستهانته بها. الثالث أن يكون ذلك حكاية لما يؤل إليه مذهبهم كأنه قال: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبدو يدعى إلهًا أن يقدر على أمثال هذه الأفعال، ويؤيد هذا الوجه ما يحكى أنه قال: {فعله كبيرهم هذا} غضب أن تعبد معه هذه الصغار، الرابع ما يروى عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله: {بل فعله} ثم يبتدئ {كبيرهم هذا} أي فعله من فعله. إلخ. امس عن بعضهم أنه يقف عند قوله: {كبيرهم هذا فاسئلوهم} وأراد بالكبير نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم. السادس أن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا والتقدير بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم. فيكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطًا بكونهم ناطقين، فلما لم يكونوا ناطقين امتنع أن يكونوا فاعلين، السابع قراءة محمد بن السميفع {فعله كبيرهم} بالتشديد أي فلعل الفاعل {كبيرهم} وفيه تعسف. وأما قول إبراهيم عليه السلام {إني سقيم} فلعله كان به سقم قليل وسوف يجيء تمام البحث فيه. وأما قوله لسارة إنها أختي فالمراد أنها أخته في الدين فلم يكن وقتئذ على وجه الأرض مسلم سواهما {فرجعوا إلى أنفسهم} حين نبههم على قبح طريقتهم {فقالوا إنكم أنتم الظالمون} لأنكم تعبدون من لا يستحق العبادة. وقال مقاتل: معناه فلاموا أنفسهم فقالوا: إنكم أنتم الظالمون لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير. وقيل: أنتم الظالمون لأنفسكم إذا سألتم منه ذلك حتى أخذ يستهزئ بكم في الجواب. يقال: نكسته اي قلبته فجعلت أسفله أعلاهـ. وانتكس انقلب، وانتكاس الإنسان هو أن يكون رأسه من تحت فلهذا قال: {ثم نكسوا على رؤوسهم} والمراد أنهم استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاؤوا بالفكرة الصالحة، ثم انقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا في المجادلة قائلين {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} وفيه أنهم رضوا بإلاهتها مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق. وقال ابن جرير: المعنى نكست حجتهم فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم وبيان انتكاس الحجة قولهم {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} فإن هذه حجة عليهم لا لهم. وقيل: المراد بانتكاس رؤوسهم إطراقهم خجلًا وانكسارًا.